هاتف: +96597379393 | بريد الكتروني: [email protected]

المدونةإشكالية العلمانية ومدى الحاجة إليها!

إشكالية العلمانية ومدى الحاجة إليها!

الإثنين 11/12/2017      الكاتب: حسين الصباغة

 

للحديث عن العلمانية يجب أن يكون هناك تمييز بين مستويين، الأول مستوى الواقع الذي تسعى العلمانية إلى مواجهته والثاني مستوى التركيب النظري لهذا الواقع، وأنه من العوائق التي تواجه العلمانية اليوم هو الخلط بين المفهوم الذي نصوه وبين واقع الفهم القائم خارج العقل.

إن جوهر العلمانية يكون بنظرية الفصل بين الدين والدولة وتنظر إلى هذا الفصل على أنه شرط للقضاء على الاستبداد والتمييز بين الناس حسب قربهم من المعرفة الدينية الصحيحة وتحرير العقل من الخرافة وإطلاق الروح العلمية والابداعية، وهي تقع ضمن ميدانين رئيسين: ميدان المجتمع السياسي وهي تحول العلمانية إلى نظرية للقضاء على النظام الثيوقراطي (النظام الديني – الحكم باسم الله) والميدان الآخر هو النشاط العقلي من خلال تصفيته من الإرث الماضي واستبداله بالنظام العلمي كمصدر لمعايير المعرفة، وتنتهي العلمانية بمعنى إلغاء العوامل التي تقوم بتخريب نظام المجتمع والعقل والخروج من الأزمة التي تعيق تطور الدولة والجهاز العلمي لها.

إن ترسيخ العلمانية في الاجتماع السياسي الحديث ساهم في تطور الدين نفسه من مفاهيم روحية وإنسانية لكن الخوف الحقيقي هو لدى رجال الدين من فقد المكانة والاحترام اللائقين به.

لذلك طرحت العلمانية كنظرية بمعنى إجرائي سياسي من خلال تنظيم العلاقة بين الدين والدولة ونزع القدسية عن ممارسة الدولة والحكام واخضاعهما للمناقشة العقلية والمسؤولية والحاسبة البشرية، وكذلك المعنى الفلسفي يكون بتنظيم العلاقات داخل العقل نفسه بين مصادر القيم القديمة والحديثة، أي أنه يتجسد في نمو الوعي الخاص بالحياة ورؤية الحياة والدين والدنيا معاً.

لذلك من الحجج الرئيسية التي يستخدمها الإسلاميون في رفض العلمانية اليوم هي الحجة ذاتها التي كان يستخدمها الإصلاحيون الإسلاميون لتجديد معاني العقيدة وتكييفها مع العصر، والواقع أن العلمانية هي نموذج تاريخي لإعادة تنظيم العلاقات التاريخية بين الدولة والدين، وإن تحو العلمانية إلى مشكلة لمصدر نزاع مذهبي في المجتمعات العربية والإسلامية لم ينجم عن رفض الإسلام العقيدي لها، بل نتيجة لغياب النقد العلمي من رجال الدين لها.

إن التطور العلماني هو تطور الحركة الإنسانية العامة والشاملة التي تؤدي إلى تطور الحضارة وتعزيز المبادرة لدى العقل، والمشكلة الرئيسية في المجتمعات العربية الإسلامية لا تكمن في سيطرة النزعة (الثيوقراطية) بل باستخدام الدين للدولة وتحويلها لأداة بيد السلطان وهو ما تقوم عليه العلمانية من تقزيم لمفهوم السلطة السياسية بالمساواة بين المواطنين دون الخضوع لدرجات الإيمان والمساءلة على النيات.

إن الاختلاط الراهن في طرح مسألة العلمانية من حيث تحديد العلاقة بين الدين والدولة في الفكر العربي هو ناجم عن عدم فهم العلاقة الحقيقية بين قيم الدين (القديمة) وقيم الدولة (الحديقة) والشعور بالتناقض فيما بينها، لذلك يجب أن يعلم الناس أن تجدد النظم الاجتماعية لا يعني تغيير رأسمال الشعوب الثقافي والرمزي واستبداله بغيره، إنما إعادة تكوين السلطات والصلاحيات والمسؤوليات مما يسمح بتحسين الآليات المادية والمعنوية وإعادة نشر القوى في الميادين الأكثر مردودية في مؤسسة واحده كبرى فعالة تسمى (الدولة).

إن العلمانية لم تفرض في أي مكان فصل الدين عن السياسة كما يدعون، بل إن التمييز بين مهام رجال الدين ومهام رجال الدولة على أن يكون جميعهم خاضعون في مجتمع واحد سيد للقيم والأهداف ذاتها والقانون يطبق على الجميع دون تمييز.

المشكلة الكبرى التي يعاني منها الوعي المدني العربي الإسلامي الحاضر هو إشكالية العلاقة بين الدولة والدين، لذلك فإن ما يدعو له الإسلام وما جعلته العلمانية هدفا لها هو التوازن في منظومة القيم التي تحرك المجتمعات وتساهم في تلبية الحاجات، لكن هذا التوازن لا يمكن أن يتحقق إذا كانت نظرية الأخلاق غير قادرة على ضبط الواقع وهي المشكلة الرئيسية بالنسبة للمجتمع العربي، وهو ما أدى بدوره إلى انهيار السند الديني للأخلاق العامة.

لذلك لا يمكن تحقيق التوازن بين الطبيعة السياسية (الدنيوية) والطبيعة الآخروية (الدينية) دون بناء الضمير أي إعادة إحياء منابع القيم والإلهام الأخلاقي في الثقافة العربية والإسلامية.

إن العلمانية لم تكن تعني بالأصل تنصل المجتمع من ثقافته وقيمه وتراثه وتمثيل ثقافات وقيم أخرى أي أنها لا تقوم على استبدال قيم بقيم، بل تعلمن القيم الاجتماعية ذاتها وتعيد تسجيلها في سجل مدني جديد وتحررها من الجمود وتفتح لها فضاء جديدا يسمح بازدهارها وتجديدها.

والسؤال المهم هنا .. لماذا لم ينجح العلمانيون العرب؟

لأن العلمانيون العرب لا يزالون يستقون مرجعيتهم في الميدان الفكري من القرن الثامن عشر والتاسع عشر الأوروبي الذي يفترض أن الشر الأكبر ناجم عن تركيب الفكر الديني فهو الخالق للتعصب المساند للطغيان والمعيق لتقدم العلم والمعرفة (أي تدمير الدين في مجتمع ما وابعاده عن الحياة المدنية، وهذا خطأ لأن ذلك سيكون أميه وفراغ وهمجية) فالعقل يبني ويربي ويكوّن وإذا فشل التكوين فليس السبب مقاومة الدين لكن خطا في الاستراتيجيات والسياسات والنظريات الفكرية التي أخذت على عاتقها بناءه، وإن التهجم على الدين غالبا ما يكون لتعويض عن إخفاق العقل، لذلك إن ربح معركة العلمانية بمعناها النبيل من خلال تحقيق التوازن العميق بين السلطات في إطار مشروعية وثقافة واحدة متجانسة يكون من خلال توزيع الصلاحيات الروحية والسياسية في الدولة.

كما إن الاستمرار في النظر إلى معركة العلمانية على أنها معركة تحرير العقل من الخرافة الدينية وأنه شرط للتقدم الاجتماعي والحضاري يؤدي إلى طمس حقيقة أن معركة العلمانية هي بالأساس معركة سياسية ليست دينية كما يعتقد بها الغالب من الناس، وهو يدل عن عدم وعي بحقائق الواقع التاريخي.

إن معركة العلمانية الراهنة التي تقوم بالاعتقاد بأن الدين هو أصل المشكلة الفعلي هي معركة خاطئة ومغلوطة بكل تأكيد، وإن توجيه الناس نحو الاعتقاد بأن الدين هو سبب فشل الثورة السياسية والاقتصادية والعقلية لا يقدم خدمة للمجتمع ولا للدين لأنه يمنع من رؤية للمشاكل الحقيقية، إذ أنه يفترض السعي نحو الكشف عن الشروط الأعمق تاريخيا وماديا واجتماعيا لتكوين السياسات الاجتماعية المناسبة دون الخلط بين وظائف العقائد والسياسات العلمية والمساهمة في فهم نقائض السياسات الاجتماعية وتحديد الأخطاء والمسؤوليات المباشرة وإيجاد النماذج التي تساهم بالإصلاح بحيث تصبح العلمانية على ما يسميه الفقهاء اجتهاد في غير عدو وتصبح العلمانية حلا سحريا لمجتمعاتنا.

دمتم بود..

 

 

أضف تعليق